الفن- ملاذ الروح وحياة لم تُعش بعد
المؤلف: عبده خال09.03.2025

لكي تحتفظ بسلامة عقلك، عليك بالانغماس في رياض الفنون.. مقولة أطلقتها يومًا ما، ونصحت بها الأصدقاء عبر منصات التواصل الاجتماعي، فالفن يختزل بين طياته سحرًا فريدًا، وقدرة فائقة على انتشالك من براثن الواقع المرير، ومهما كانت قساوته، فكل واحد منا يخوض غمار حياة قد تكون روتينية، أو باردة المشاعر في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى، نتفق ضمنيًا على أن يتم تشكيلها وفقًا لأحداث متكررة، ويصبح حالك متطابقًا تمامًا مع الدور الذي وجدت نفسك منخرطًا فيه، وهو دور يحمل بين طياته مسؤوليات تصر على أدائها بكل إخلاص وشغف، كأنك عاشق لهذا الدور، إنه ذلك الحب الذي ترعرع ونما مع مرور الأيام والسنين، الحب الذي طوقك بهالة من المثالية المطلقة، والتناغم التام مع إيقاع خطوات أيامك، إنها حياة مثالية في أعين الآخرين، وربما حتى في نظرك أنت، ولكن عندما تلجأ إلى الفن كعدسة مكبرة، تمنحك القدرة على استكشاف الأبعاد الحياتية المتنوعة للناس، ستكتشف أن لكل حكاية أبعادًا وقياسات مختلفة تمامًا، وأن البعد الرابع هو الفارق الجوهري بين حكايات البشر، إنه بُعد يكشف لك ما تراكم على حياتك من غبار الرتابة والملل، يزيل كل ما هو عادي ومبتذل، ويريك ألوانًا زاهية لم تعتد عليها في أيامك الماضية، الفن هو بمثابة (جلاية) للروح قد يكون أداة فعالة لتغيير الأفكار، أو تعديل الحالة النفسية التي اعتدت الظهور بها أمام الآخرين، كحالة من التوازن المثالي، غالبًا ما نعيش في صراع دائم بين الظاهر والباطن، فالباطن هو كنزك الثمين، الخاص بك وحدك، والذي لا يعرفه أحد سواك، وفي بعض الأحيان قد يغيب عنا هذا الكنز، ولكنه يظهر بجلاء حين تنفرد بذاتك من خلال قراءة رواية، أو الاستماع إلى لحن ساحر، أو مشاهدة فيلم سينمائي مؤثر، يحدث ذلك أثناء توحدك الكامل مع العمل الفني، حين يلامس أعماقك ويهز مشاعرك، فجأة تجد نفسك متطابقًا مع خيال مؤلف الرواية، أو مع تجسيد حالة أبطال الفيلم، أو منسجمًا تمامًا مع لحن يقتلع الجذور الخبيثة للتكرار والملل التي عشت بها، الفن يمنحك فرصة عيش حيوات أخرى، فتتنقل من حياة إلى أخرى، لتجد من يشبهك، ومن يختلف عنك، ومن هو خارج نطاق تفكيرك المحدود، أو من يكون نافذة تطل منها على حياة جديدة، حلمت بها طويلاً، ولكنك لم تتمكن من الوصول إليها، ووصيتي بالهروب إلى حقول الفن هي نابعة من قناعة راسخة، حين تكتشف أن لك حياة أخرى لم تعشها بعد، وأن الانتقال إليها يحتاج إلى عمر إضافي، فنحن نحتاج إلى أعمار إضافية لكي نعيش وفقًا للصورة المتجسدة قرائيًا أو بصريًا أو سمعيًا، وهذا يذكرني بالنقاش العميق الذي دار بيني وبين موسى محرق (رحمه الله)، كان نقاشًا حول قصر العمر، والذي يمضي وأنت تؤدي دورًا وجدت نفسك فيه، وواصلت طريقك دون التفكير في مدى ابتعاد عمرك الحقيقي عما تتخيله في أعماق روحك.. أكتب هذه المقالة بعد مشاهدة فيلم (برا المنهج)، الذي أكد لي أن خصلة الكذب تقودك حتمًا إلى حياة زائفة، يتواطأ الجميع على تصديقها، إلا أن جماليات الفيلم تدفعك بقوة للخروج من تلك الخصلة الذميمة، وتوجيه حياتك على مسار الصدق والنزاهة، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: متى يمكنك التحرر من الحياة الكاذبة لكي تلتصق بحياة تحلم بها في أعماقك، ولكنك لم تصل إليها بعد، لأن العمر قصير جدًا لا يكفي لإجراء أي تصحيحات، ولا يكفي لكي تعيش من جديد..